السياسة النقدية.. آفة الاقتصاد العراقي

شوان زنكنة / ماجستير اقتصاد إسلامي

                                                  

تمهيد

يعيش العراقُ على النفط، ووارداتُه تكاد تقتصر عليه، والتي يتمّ إيداعُها بالدولار في البنك الفدرالي الأمريكي، بإرادةٍ مقصودة فاسدة، رغم عدم وجود إلزامٍ قانوني دولي بذلك، ويتمّ تحويلُها إلى البنك المركزي العراقي بأوامر تحريرية من قبل وزارة المالية العراقية.

ويُفترَض أن يقوم البنك المركزي العراقي بتمويل حاجات العراق من الدولار، وحسب اللزوم، كما ويقوم بتوفير الكمية الكافية من الدينار العراقي لتسديد الإنفاق الحكومي، وتوفير حاجة الأسواق، ناهيك عن قيامه بضبط سعر الصرف، وحماية الدينار، ومراقبة أنشطة المصارف، إلا أنه ومنذ عام 2003م، وبالأخص منذ ديسمبر 2020م، خرج عن مساره الحقيقي، وقصّر في أداء واجباته، إذ تمَّ تخفيضُ سعر صرف الدينار إلى 1460 دينارا للدولار الواحد، وفتحُ باب المضاربة للمصارف من خلال نافذة بيع العملة، والسماحُ بتأسيس العشرات من المصارف الأهلية، التي لا شغل ولا شاغل لها إلا المضاربة واقراض شلة محدودة من الناس، والتهاونُ في فرض ضوابط الامتثال على الحوالات الخارجية الوهمية التي كانت تُهرّب العملةَ الصعبة إلى دولٍ محظورة، رغم تحذيرات مكتب مكافحة الجرائم المالية التابع للخزانة الأمريكية.

الأزمة النقدية

وتفاقمت الأزمةُ النقدية بعد فرض المَنصّة الإلكترونية في التحويلات الخارجية، إذ توجهت الحوالاتُ الوهمية التي كانت تجري عبر البنك المركزي إلى الأسواق المحلية، واختلطت بالحوالات الحقيقية لمستوردي السلع والمنافع من الخارج، فارتفع الطلب المحلي على الدولار، باعتباره العملة المُؤثِّرة في الاقتصاد العراقي، والمُتحكِّمة في تجارته الخارجية.

وتبدأ حركةُ تهريب الدولار من نافذة بيع العملة الصعبة لدى البنك المركزي، إذ تشتري المؤسسات المالية المُرخَّصة، يوميا، كميات من الدولارات مقابل الدينار العراقي، ثم يقوم المضاربون بشرائها، ونقلها إلى الخارج بطرق غير رسمية، وبالأخص إلى إيران، والحصول على الدنانير في مقابلها، ثم يعيدون العملية مرة أخرى، وبشكل مستمر. أما الدولار المُهرَّب، فيشتريه البنك المركزي الإيراني من المضاربين، بالتومان الإيراني، وبالدينار العراقي المخزون لديه، ويتمّ تعزيزُ رصيد التومان من خلال طباعته، ورصيد الدينار من خلال مخزونه لديه، ومن اتفاقية شراء الطاقة بالدينار المبرم بين الحكومتين، ومن تهريب الدينار إلى إيران، بل ومن طباعته في إيران، حسب تواتر المعلومات بهذا الخصوص، وقد طبع البنكان المركزيان، العراقي والإيراني كميات كبيرة من عملتيهما في السنتين الأخيرتين، فقد ارتفع حجم النقد العراقي المطبوع خلالهما بنحو 20 تريليون دينار، حتى بلغ حوالي 100 تريليون دينار في آذار الماضي، حسب بيانات البنك المركزي العراقي.

أما الدولارات المحوَّلة لأغراضٍ تجارية حقيقية، فإنها كانت، ولا زالت تجري من خلال مكاتب الصرافة، سواءً لإيران أو لغيرها، ولم تؤثر هذه الحوالات على سعر الصرف، لأنها حوالات تقابلها سلع ومنافع، تتحول إلى نقد، بالدينار والدولار، ضمن دورة اقتصادية متكاملة ومستقرة، لذلك لم تؤثر هذه الحوالات في الطلب على الدولار، لا قبل المنصة الإلكترونية، ولا بعدها.

سوء السياسة النقدية

استمرارُ عمليات المضاربة وتهريبِ العملة، في وضع لا تَلوحُ فيه علاماتُ قدرةِ، أو سعيِ البنك المركزي العراقي لكبح جماح التهريب، سيؤدي، حتما إلى مزيد من انكماش الدينار وارتفاع معدلات التضخم. ولو أضفنا إلى ذلك، عدمَ وجود نظام مصرفي حِرَفيٍّ وحقيقي، يستقطب مُدَّخَرات المواطنين، ويُموِّل الشركات، وبالتالي حرمان البنك المركزي العراقي لأهم أداة من أدواتها النقدية للسيطرة على التضخم وسعر الصرف، ألا وهي أداة سعر الفائدة، لأدركنا حجم الكارثة التي يعيشها الاقتصاد العراقي، في حربه الشرسة وهو أعزل، لا حول له ولا قوة.

وتأتي مبادرات البنك المركزي العراقي الاقراضية لِتُثقِلَ كاهلَ الاقتصاد العراقي، في حين جاءت هذه المبادرات بهدف دعم الاقتصاد وتنشيطه ضمن سياسة توسعية اتخذها البنك المركزي، إذ ذهب الكثير من هذه القروض خارج العملية التنموية، وذلك بتحويلها إلى الخارج، أو شراء عقارات، أو ادِّخارِها في ملاذاتٍ آمنة كالذهب والعملة الصعبة، ناهيك عن ضمور بعضها، والتعثّر في تسديدها، بينما كان من المؤمّل أن تساهم هذه القروض في رفع مستوى الإنتاج، واستقرار السوق، من خلال تحقيق التوازن بين الكتلة النقدية الزائدة وحجم الإنتاج الذي كان من المفروض أن يرتفع بموازاة حجم القروض.

وقد فشل البنك المركزي العراقي في تفعيل وتشغيل المنصّة الإلكترونية بكفاءةٍ، بسبب تعقيدات استخدامها من قبل التجار، وعدم تمكن الكثيرين منهم من استخدام برامج الحاسوب، لذلك لم يستطع معظم التجار من اجراء تحويلاتهم من خلال هذه المنصّة، وبالتالي اضطرّوا إلى صرف الدولار بسعر السوق الموازي، وهو ما يجعل كلفة السلعة المستورَدة أعلى.

إن توسّع البنك المركزي العراقي في طبع الدينار تسبب بزيادة الكتلة النقدية، التي أعطت المرونة للمضاربين القدرة على شراء الدولار وتهريبه، وليس لدى البنك المركزي أداة فعالة لتقليل الكتلة النقدية إلا رفع مستوى الاحتياطي الإلزامي، وهو ما لم يستخدمه لحد الآن.

ويتجلى سوء السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي بوضوح في قراره القاضي بتحويل العملة الصعبة للراغبين بشراء عقارات خارج العراق، في حين أن اقتصادات العالم، تسعى إلى تشجيع الرأسمال الأجنبي للدخول فيها، وذلك لتعزيز وحماية عملاتها المحلية، ويَنُمُّ هذا القرار عن سوء نيةٍ، وفسادٍ، ناهيك عن سوء إدارة، بينما لا أودّ أن أُقنع نفسي بوجود جهلٍ أو عدم معرفة.

أما إجراءات البنك المركزي الكارتونية، التي يدعي أنها تخفّف من الأزمة النقدية، كتحويلات المسافرين، والمرضى، والطلاب، وغيرها، فإنها ليست إلا ساحات تهريب سهلة أخرى يلعب فيها المضاربون، ويستغلونها في تهريب الدولار، بطرق فاضحة واضحة للعيان، وعلى مَرأى ومَسمعٍ من الحكومة والبنك المركزي.

وفي خِضَمِّ اقتصادٍ ريعي، لا يُعير لتنويع الموارد أهمية تُذكر، وسياسةٍ نقدية لا تدفع الإنتاج إلى مجارات الزيادة في الكتلة النقدية، وتحقيق التوازن معها، وفي بيئةٍ فاسدة نتنة، ومالٍ عامٍّ سائبٍ، وحكومةٍ إيرانيةٍ للعظم، لا يمكن للدينار العراقي أن يصمد أمام العملات الصعبة، وارتفاعِ أسعار السلع والخدمات، لذلك، سيضطرّ المواطن العراقي إلى حماية ديناره من الانكماش، ويبدأ بالتعوّد على اللجوء إلى الملاذات الآمنة، كالدولار والذهب والعملات المشفرة، وغيرها، فيقوم بتحويل مدَّخراته من الدنانير إلى أحد هذه الملاذات، لحمايتها مع جني الأرباح، فيتسبب بذلك في خلق طلبٍ دائم ومُزمن على تلك الملاذات، وبالأخص الدولار والذهب، مما سيجعل التضخّمَ حالةً مُلازمةً للاقتصاد العراقي، الذي سيدخل في دوامة انكماش الدينار والتضخم المتسلسل والمُزمن.

كل ذلك سيعيشه الاقتصاد العراقي بسبب السياسة النقدية الفاشلة للبنك المركزي العراقي، وتفشِّي الفساد في كافة مفاصل الحكومة العراقية، الإيرانية للعظم.

الإجراءات العلاجية

ولمنع دخول الاقتصاد في هذه الدوامة وتخفيف حدَّتها، أُوصي باتخاذ الإجراءات التالية:

1- رفعُ سعر الفائدة السنوية إلى (8%) على الودائع، وتحديد سعر الفائدة للإقراض بـ(10%) في كافة البنوك العراقية (الحكومية والأهلية)، ما عدا قروض مبادرات البنك المركزي العراقي، ويهدف هذا الإجراء إلى إتاحة الفرصة للفائدة للعب دوره الطبيعي كأداة من أدوات السياسة النقدية، إذ سيدفع هذا الإجراء إلى ضخّ مُدّخرات المواطنين إلى البنوك كودائع بعوائد سنوية مجزية، وكملاذ آمن مضمون الحماية من التضخم، مع جني الأرباح، وبالتالي يتمّ تقليلُ الكتلة النقدية، وانخفاضُ الطلب على الدولار، وانخفاضُ أسعار السلع، فيتحسن الدينارُ وتنخفض وتيرةُ التضخم.

2- رفعُ سقف الاحتياطي الإلزامي للبنوك المحلية (الحكومية والأهلية) إلى مستويات تتناسب مع الحاجات المالية اليومية لتلك البنوك، بحيث لا يبقى فائض لديها يمكن أن يُستَخدَم لأغراض شراء عملة أجنبية مُعدَّةٍ للتهريب، ويهدفُ هذا الإجراء إلى تقليلِ الكتلة النقدية بالدينار، إلا بقدر الحاجة، ومنع الفائض من استخدامه في مزادات نافذة بيع العملة الصعبة، وكذلك، كشفِ المبالغ خارج البنوك التي تدخل المزادات عن طريق البنوك، باعتبارها لا تملك فائضا عن حاجاتها المحلية.

3- لتسهيل العمليات المالية في المنصّة الإلكترونية، واستخدامها الشامل من قبل كافة التجار ولكافة الصفقات التجارية، يتمّ تحقيق الإجراءات التالية:

أ- تخصيص قسم خاص، وبعدد معين من الموظفين في كافة فروع البنوك المرخصة، مهمته تخليص معاملات الاستيراد والتصدير للتجار.

ب- يقدم التاجر فاتورته الأولية (proforma invoice)، مباشرة في الفرع، أو يرسلها إلكترونيا، ويطلب معها تحويل المبلغ المدرج فيها إلى العنوان البنكي المثبت فيها، أو يطلب فتح اعتماد مصرفي مشروط.

ت- في حال التحويل المباشر، يقوم البنك بفتح ملف للتاجر خاص بهذه الصفقة، ويقوم بتحويل المبلغ المدرج في الفاتورة إلى العنوان البنكي المذكور فيها، على أن يبقى هذا الملف مفتوحا، ولا يتم غلقه إلا بعد اكمال التاجر معاملات الاستيراد وإدخال البضاعة عبر الجمارك إلى العراق.

ث- يقوم التاجر بإكمال إجراءات الاستيراد وإدخال البضاعة عبر الجمارك العراقية، وتقديم أوراق الشحن ومستندات الجمارك التي تثبت دخول البضاعة للعراق، وبموجبها يقوم البنك بغلق الملف.

ج- في حال كون التحويل على شكل اعتماد مستندي، يقوم البنك بفتح ملف خاص بالصفقة، ويقدم التاجر الأوراق اللازمة، والشروط التي يرغب في إدراجها فيه، ثم يقوم البنك بإرسال الاعتماد إلى بنك المُصدّر، ويتمّ غلقُ الملف بعد تقديم التاجر الوثائق الجمركية التي تثبت دخول البضاعة إلى العراق بشكل رسمي، ووفق ما ورد في مستند الاعتماد.

ح- كل الملفات المفتوحة في البنوك، لها مدة زمنية محددة للغلق، شهر، أو شهران، أو حسب، فترة الاعتماد المستندي، ولا بد للتاجر من أن يغلق الملف ضمن هذه الفترة، وإلا فإنه سيتعرض لغرامة مالية محددة، ولمنع الدخول إلى المنصة مرة أخرى.

خ- بهذه الطريقة، ستكون كافة المعاملات عبر المنصة سهلة وميسرة جدا، ويستطيع كل التجار من إجراء كافة معاملاتهم عبر المنصة بسرعة، وبدون إشكال، وبوقت قصير جدا.

4- تشكيل هيئة رقابة مالية وأمنية في كافة المطارات والموانئ والحدود البرية، وذلك لإثبات الجدية في الرقابة على التهريب عبر الحدود، ويهدف هذا الإجراء إلى تقليل التهريب نوعا ما، وإن لم يكن كفوءً بالقدر الكافي.

5- إصدار تعليمات صارمة لكافة البنوك ومكاتب الصرافة، بمنع بيع الدولار للفرد الواحد بمقدار أكثر من 10000 دولار، إلا بوثيقة تثبت الحاجة الاقتصادية المحلية إليها، وإجراء دوريات رقابة مكثفة على هذه البنوك والمكاتب للتأكد من التزامها بالتعليمات، ويهدف هذا الإجراء إلى التضييق على أنشطة المضاربين وتقليل حجم تهريبهم للعملة الصعبة.

6- فرض عقوبات صارمة على البنوك والمؤسسات المالية التي لا تمتثل لتعليمات البنك المركزي العراقي، ومكتب مكافحة الجرائم المالية التابعة لوزارة الخزانة الأمريكية، ومجموعة العمل المالي الدولية، الخاصة بمنع تبييض وتهريب الأموال، وسحب رخصها، ومنعها من مزاولة المهنة.

الخاتمة

هذه مجموعة من الإجراءات المالية والنقدية والفنية، القابلة للتنفيذ الفوري، واللازمة لتخفيف وطأة الأزمة النقدية، ومنع دخول الاقتصاد في دوامة انكماش الدينار وارتفاع التضخم، في الوقت الراهن، على أن تتبعها خطوات جذرية، نقدية ومالية وإدارية، تمس بنية السياسة الاقتصادية العراقية، تبدأ بتأسيس نظام مصرفي حديث، ودعم الإنتاج، الصناعي والزراعي، وتحرير الاقتصاد من الفساد وسوء الإدارة والهيمنة الأجنبية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *