
استراتيجية سياسة الاحتواء وملء الفراغ: الدور السعودي أنموذجاً
د. زيد علي الفيصل
مقدمة
شهدت العلاقات الدولية على مر التاريخ تطوراً ملحوظاً في الاستراتيجيات التي تتبناها الدول الكبرى والإقليمية لتحقيق مصالحها وتعزيز نفوذها، ومن بين هذه الاستراتيجيات برزت سياسة الاحتواء وملء الفراغ كأدوات فعالة في إدارة التوازنات الدولية والإقليمية. وقد تجلت هذه السياسات بشكل واضح في منطقة الشرق الأوسط، اذ تتشابك المصالح وتتصارع القوى الإقليمية والدولية على النفوذ والهيمنة.
في هذا السياق، برزت المملكة العربية السعودية كلاعب إقليمي رئيسي يتبنى استراتيجيات متنوعة للاحتواء وملء الفراغ، سعياً منها لحماية مصالحها وتعزيز أمنها القومي، ومواجهة التحديات المتزايدة في المنطقة. وقد تجلى ذلك في سياساتها تجاه العديد من الأزمات الإقليمية، مثل الأزمة اليمنية، والأزمة السورية، والعلاقات مع العراق ولبنان، وغيرها من القضايا الإقليمية.
مفهوم سياسة الاحتواء
تعود جذور مفهوم سياسة الاحتواء إلى فترة الحرب الباردة، وتحديداً إلى الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان، الذي صاغ أساسات هذه السياسة في برقية شهيرة عام 1946 (عُرفت باسم “البرقية الطويلة”) أرسلها من موسكو حيث كان يعمل في السفارة الأمريكية. وقد تم تطوير هذه السياسة لاحقاً في مقال نشره كينان عام 1947 في مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية تحت اسم مستعار “إكس”.
يمكن تعريف سياسة الاحتواء بأنها استراتيجية تهدف إلى منع توسع قوة معادية أو منافسة، والحد من نفوذها وتأثيرها، من خلال مجموعة من الإجراءات السياسية والاقتصادية والعسكرية. وتقوم هذه السياسة على فكرة أساسية مفادها أن القوة المعادية ستضعف تدريجياً إذا تم احتواؤها ومنعها من التوسع. وقد تطورت سياسة الاحتواء عبر الزمن لتشمل أشكالاً متعددة، منها:
- الاحتواء السياسي: من خلال العزل الدبلوماسي والضغوط السياسية.
- الاحتواء الاقتصادي: عبر العقوبات الاقتصادية والحصار التجاري.
- الاحتواء العسكري: من خلال إقامة الأحلاف العسكرية والقواعد العسكرية.
- الاحتواء الثقافي والأيديولوجي: عبر مواجهة الأفكار والأيديولوجيات المعادية.
أما سياسة ملء الفراغ، فهي استراتيجية تقوم على استغلال الفراغات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تنشأ نتيجة انسحاب أو تراجع قوة ما من منطقة معينة. وتهدف هذه السياسة إلى منع القوى المنافسة من استغلال هذه الفراغات وتعزيز نفوذها، ظهرت سياسة ملء الفراغ بشكل واضح بعد الحرب العالمية الثانية، حيث سعت الولايات المتحدة إلى ملء الفراغ الذي خلفته القوى الاستعمارية التقليدية (بريطانيا وفرنسا) بعد تراجع نفوذها في مناطق مختلفة من العالم، وخاصة في الشرق الأوسط. وقد تجلت هذه السياسة بشكل واضح في “مبدأ أيزنهاور” الذي أعلنه الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور في يناير 1957، والذي ركز على أهمية سد الفراغ الذي نتج في منطقة الشرق الأوسط بعد انسحاب بريطانيا منها.
جدلية العلاقة بين المفهومين
رغم الاختلاف بين مفهومي الاحتواء وملء الفراغ، إلا أنهما يرتبطان ارتباطاً وثيقاً ويكملان بعضهما البعض في كثير من الأحيان. فسياسة الاحتواء تهدف إلى منع توسع القوى المنافسة، بينما تهدف سياسة ملء الفراغ إلى استباق هذه القوى في المناطق التي تشهد فراغاً في السلطة أو النفوذ. وغالباً ما تتبنى الدول الكبرى والإقليمية مزيجاً من هاتين السياستين في استراتيجياتها الخارجية، حيث تسعى من جهة إلى احتواء خصومها ومنافسيها، ومن جهة أخرى إلى ملء الفراغات التي قد تنشأ في مناطق نفوذها أو في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية لها.
تطور سياسة الاحتواء: من النظرية إلى التطبيق
في مارس 1947، أعلن الرئيس الأمريكي هاري ترومان عن “عقيدة ترومان” في خطاب أمام الكونغرس، والتي تعهدت واشنطن بموجبها على “دعم الشعوب الحرة التي تقاوم محاولات الإخضاع”. وقد جاءت هذه العقيدة استجابة للأزمات في اليونان وتركيا، وكانت بمثابة تطبيق عملي لسياسة الاحتواء. تم تطبيق سياسة الاحتواء من خلال إنشاء سلسلة من الأحلاف العسكرية والتحالفات الإقليمية، أبرزها:
- حلف شمال الأطلسي (الناتو): تأسس عام 1949 كتحالف عسكري بين دول أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية لمواجهة التهديد السوفيتي.
- حلف بغداد: تأسس عام 1955 ويضم تركيا والعراق وإيران وباكستان وبريطانيا، بهدف منع التغلغل السوفيتي في الشرق الأوسط.
- حلف جنوب شرق آسيا: تأسس عام 1954 لمواجهة المد الشيوعي في جنوب شرق آسيا.
نشأة وتطور سياسة ملء الفراغ
ظهرت سياسة ملء الفراغ بشكل واضح بعد الحرب العالمية الثانية، مع تراجع النفوذ البريطاني والفرنسي في مناطق مختلفة من العالم، وخاصة في الشرق الأوسط. وقد تجلت هذه السياسة بشكل واضح في “مبدأ أيزنهاور” الذي أعلنه الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور في يناير 1957، والذي ركز على أهمية سد الفراغ الذي نتج في منطقة الشرق الأوسط بعد انسحاب بريطانيا منها.
الدور السعودي في سياسة الاحتواء وملء الفراغ
تتمتع المملكة العربية السعودية بمكانة استراتيجية مهمة في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وذلك للأسباب التالية:
- المركزية التاريخية في العالم الإسلامي: باعتبارها مهد الإسلام وموطن الحرمين الشريفين، تتمتع السعودية بمكانة دينية وتاريخية فريدة.
- القوة الاقتصادية: تعد السعودية من أكبر اقتصادات المنطقة، وأحد أهم منتجي النفط في العالم، مما يمنحها نفوذاً اقتصادياً كبيراً.
- الموقع الجغرافي الاستراتيجي: تقع السعودية في قلب الشرق الأوسط، وتطل على الخليج العربي والبحر الأحمر، مما يجعلها محوراً للتجارة والنقل الدولي.
- الاستقرار السياسي النسبي: في ظل اضطرابات المنطقة، تمثل السعودية نموذجاً للاستقرار السياسي النسبي، مما يؤهلها للعب دور محوري في المنطقة.
في سياق متصل، في حديثه المهم لقناة ومنصة أساس ميديا اللبنانية أشار الدكتور عبد العزيز بن صقر رئيس مركز الخليج للأبحاث إلى أهمية الدور السعودي المتنامي سياسيا واقتصاديا واستحقاقها مكانة كبرى إقليميا ودوليا، باعتبار مركزيتها التاريخية في وجدان العالم الإسلامي، وقيمة موقعها الاستراتيجي، ناهيك عن قوة اقتصادها وتنوع استثماراتها. وهو ما أهلها لتكون دولة رائدة في الشرق الأوسط، وذات مكانة أولى على الصعيد العربي.
في السياق ذاته أشار بن صقر في حواره إلى أهمية أن تقوم السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي بملء الفراغ الحاصل في المشرق العربي، وفي تصوري فذلك أكثر ما نحتاج إليه، وأول ما يجب أن يكون، تفاديا لما سبق من أخطاء استفاد منها الآخر الإقليمي سواء إيران أو تركيا، ناهيك عن بدء تدخل إسرائيل في ثنايا مشهدنا العربي.
في هذا الإطار فليس خافيا حجم التمدد الإيراني في الجوار العربي، سواء في العراق، إثر احتلال الولايات المتحدة له بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين، أو في اليمن إثر سقوط نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح، علاوة على تجذرهم في سوريا ولبنان وصولا إلى قطاع غزة باسم دعم المقاومة.
واليوم يمكن أن يتكرر المشهد في سوريا بعد سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، وتولي الجماعات السياسية والعسكرية المدعومة من تركيا سدة السلطة بها، وهو ما تعمل السعودية على تلافي تكرار ما سبق في العراق بالتفاهم مع تركيا من جهة، وبتكريس تواصلها مع القيادة السورية الجديدة وتقديم كل العون والمساندة لها كما حدث في إعلان الرئيس ترامب عن رفع العقوبات عن سوريا من العاصمة الرياض، ثم لقاء الرئيس أحمد الشرع وعقد جلسة مباحثات ثلاثية بحضور الرئيس التركي عبر الهاتف.
أشير إلى أن السياسة تقتضي المرونة، وتقوم على المراجعة الدورية لمختلف القرارات، والنظر في نتائجها إن سلبا أو إيجابا، وأتصور بأن أكثر ما قصرنا فيه سابقا كان في عدم وجود استراتيجية سياسية ذكية لتحقيق سياسة الاحتواء وملء الفراغ بمهارة عالية، تقوم على تكريس المصالح البينية وليس على ترويج الأهداف الأيدولوجية سواء كانت دينية طائفية، أو سياسية كما هو الحال مع الأحزاب اليسارية كالحزب الاشتراكي، أو القومية كتيار الناصرية أو حزب البعث.
هذا ما نحتاج إليه اليوم، وأقصد أن يتم ملء الفراغ واتباع سياسة الاحتواء بمنظور عربي خالص، قائم على المنفعة، وبعيد أن أي تبشير لأفكار عقائدية دينية كانت أو سياسية، وهو ما تنتظره سوريا بتقسيماتها الطائفية المتنوعة من دروز وعلويين وشيعة علاوة على المسيحيين؛ وينتظره لبنان أيضا بأطيافه المتنوعة وبخاصة أولئك الذين تهدمت بيوتهم جراء العدوان الإسرائيلي، ويحتاجه اليمن بشكل مكثف في الجانب الآخر، وكل أولئك قد تم احتوائهم من قبل إيران من قبل، والتي وجدت فراغا تركناه، أو لم نحسن ملئه بشكل سياسي جيد، فسارعت بدهاء إلى ملئه واحتواء من فيه بذكاء سياسي عاطفي؛ وهو ما تسعى له إسرائيل اليوم لممارسته في سوريا بإعلان حمايتها للدروز وغيرهم؛ الأمر الذي يوجب تحركا سريعا لاحتواء المشهد وملء الفراغ بذكاء سياسي، عبر رؤية استراتيجية يقودها رجال أكفاء لم ينغمسوا من قبل في أي صراع أيدولوجي سياسي أو طائفي.”
إرسال التعليق